يدور هذا الموضوع حول قضية هامة هي علاقة الروحانيات بالمرض النفسي وهنا نجيب علي أسئلة تدور بالأذهان منها على سبيل المثال:
= هل يسبب الشيطان المرض النفسي؟
= ما رأي الطب النفسي في كلام الجن والشياطين على لسان بعض المرضى؟
= هل لحالات الوسواس القهري والصرع علاقة بوساوس الشياطين ومس الجن؟
= ما هي وجهة نظر الطب النفسي في معتقدات الناس حول الشعوذة والأمراض النفسية؟
وهنا عزيزي القارئ أتناول بعض الجوانب النفسية للعلاقة بين الشعوذة والمرض النفسي.. فلنقرأ معاً سطور هذا الموضوع..
[] كيمياء الأمراض النفسية..
هناك إعتقاد قوي لدى قطاعات كبيرة من الناس خصوصاً المصابين بإضطرابات نفسية وأقاربهم بأن هناك قوى خفية تسببت في إصابتهم بالمرض النفسي، وهم يتفقون علي ذلك وكأنه حقيقة مسلم بها، ويظل الخلاف في الكيفية التي يعمل بها الجن أو الشياطين فيتصور البعض أنهم يدخلون إلي داخل جسد الإنسان ويسببون له الإضطراب الذي لا يشفى إلا بخروجهم منه، ويعتقد البعض الآخر أن مجرد المس من جانب هذه المخلوقات يكفي لحدوث المرض، ويرى آخرون أن المسألة هي وساوس يقوم بتوجيهها الشيطان إلى ضحاياه عن بعد..
والشيطان في كل الحالات متهم بأنه السبب الرئيسي وربما الوحيد وراء المرض النفسي علي وجه الخصوص وأحياناً بعض الحالات المرضية الأخرى، ويدفع هذا الإعتقاد الكثير من المرضى إلى طلب العلاج لدى الدجالين والمشعوذين الذين يتعاملون مع الجن والشياطين دون التفكير في اللجوء إلى الطب النفسي إلا بعد مرور وقت طويل من المعاناة.
وبحكم العمل في الطب النفسي فإن نسبة لا تقل عن 70 % من المرضى يذهبون في البداية إلى المعالجين الشعبيين أو المشعوذين قبل أن يفكروا في زيارة الطبيب النفسي، ورغم انه لا يوجد دليل واحد على علاقة الشيطان بالأمراض النفسية فإن بعضاً من المتعلمين إلى جانب البسطاء لا يستطيع فهم الحقائق العلمية التي تؤكد أن غالبية الأمراض النفسية الرئيسية قد تم التوصل إلى معرفة أسبابها وأنها نتيجة تغييرات كيميائية في الجهاز العصبي ويمكن علاجها عن طريق تعديل الخلل الذي يعاني منه المريض بإستخدام الأدوية النفسية الحديثة أو العلاج النفسي، وكما سنعرض نماذج لذلك في هذا الموضوع فإن الشيطان ليس له دور مطلقاً في هذه المسألة.
¤ عندما يتكلم الشيطان!!
من الحالات الغريبة التي يتناقل الناس الحديث حولها في المجتمعات العربية حالات لمرضى يغيبون عن الوعي ويبدأ الشيطان أو الجن في الحديث من داخلهم!!.. فالكلام يصدر عنهم لكنه بنبرات وأسلوب يختلف عن طريقتهم المعتادة في الحديث، والكل هنا يؤكد أن المتحدث هو المخلوق الغريب بداخلهم، وربما يذكر هذا المتحدث إسمه وديانته والمكان الذي حضر منه فهناك الجن الكافر، وهناك الشيطان الصغير، والفتاة المثقفة، والمرأة التي تبدى رغبتها في الزواج من المريض، أو الرجل الذي يؤكد أنه يحب ضحيته ولن يتركها، وكل هذه نماذج من الشياطين الذين يتحاورون مع المحيطين بالمريض وكثيراً ما يقدم الواحد منهم بعض المطالب حتى يتخلى عن المهمة التي يقوم بها مع هذا المريض ويتركه وشأنه.. والكلام هنا مؤكد، وتسمعه من مصادر كثيرة لدرجة أن بعض الناس يقول لك أن لديه تسجيلات لهذه الوقائع بصوت الشيطان نفسه حتى يصدق الجميع ذلك.. فما تفسير هذا من وجهة نظر الطب النفسي!؟
الواقع أنني شخصياً قد إستمعت إلى مثل هذه الأشياء في حياتي العملية عدة مرات.. لكن هذه الحالة أيضاً لا علاقة لها بالشيطان نهائياً، والمتحدث هنا هو المريض نفسه وهو في حالة نطلق عليها التحول الهستيري يغيب فيها عن الوعي مؤقتاً وتظهر بعض محتويات عقله الباطن فيقوم بالتنفيس عن بعض رغباته المكبوتة ويهرب من الواقع والضغوط التي لا يحتملها فيتصور الجميع أن بداخله شيطان يتكلم، وهذه الحالات لا تحتاج إلى جلسات الزار أو الذهاب إلى الدجالين، أو ضرب المريض بقسوة لإخراج الجن، كل ما في الأمر هو تهدئة المريض وبحث حالته النفسية والتعامل مع الضغوط التي يتعرض لها، وهنا تتحسن الحالة دون تعامل مع الشيطان.
¤ الأصوات والخيالات والوساوس.. هل هي مرضية أم شيطانية!؟
مرض الوسواس القهري -OCD- هو أحد الأمراض النفسية الشائعة بصورة لم نكن نحيط بها من قبل حيث إعتقد الأطباء النفسيون أنه من الحالات النادرة، لكن الدراسات الحديثة تؤكد أنه يصيب 3% من الناس.. وقد إرتبط هذا المرض في الأذهان بوساوس الشياطين بسبب التشابه بين مسمي الوسواس القهري ووصف الشيطان الوسواس الخناس الذي ورد في القرآن الكريم، لكن إذا علمنا أن الوسواس القهري قد أصبح من الأمراض التي تم كشف النقاب عن الكثير من أسرارها، وأن هذه الحالات لها علاقة ببعض المواد الكيميائية في المخ مثل مادة السيروتونين التي يتسبب إختلالها في أعراض الوسواس القهري وهي:
•= أعمال وسواسية في صورة تكرار أفعال وطقوس لا معنى لها مثل غسل الأيدي، أو الطهارة عند ملامسة أي شيء، أو التمتمة بكلمات أو أعداد معينة قبل بدء أي عمل، أو إعادة الوضوء عدة مرات قبل الصلاة.
•= أفكار وسواسية مثل الإنشغال والإستغراق في التفكير في موضوعات تافهة وقضايا لا حل لها مثل مسألة البيضة والدجاجة ومن الذي أتى أولاً!؟.. أو البحث في شكل الشيطان وماذا يأكل وكيف يعيش؟.. أو أفكار دينية أو جنسية لا معنى لها تشغل التفكير وتعوق الشخص عن مزاولة حياته.
•= مخاوف وسواسية لا أساس لها من أشياء ليست مصدر خوف على الإطلاق.
وكل هذه الصور لحالات الوسواس القهري هي حالات مرضية يتعامل معها الطب النفسي حالياً بالعلاج الدوائي الذي يعيد الإتزان النفسي ونسبة الشفاء عالية حالياً بإستخدام الأدوية الحديثة ولا علاقة للشيطان بكل هذه الوساوس المرضية.
أما الهلاوس -Hallucinations- فهي أن يتصور المريض أنه يرى أشباحاً أو يسمع أصواتاً تتحاور معه أو تهدده أو تأمره بأن يفعل أشياء معينة، وقد يفسر الناس ذلك بأن الشياطين هي التي تفعل ذلك، لكن ومن وجهة نظر الطب النفسي هي وجود خلل في جهاز الإستقبال لدى المريض يجعله يستقبل صوراً وأصواتاً لا وجود لها، وهذه الحالات أيضاً تتحسن بالعلاج بالأدوية الحديثة ولا دخل للشيطان في هذه الأعراض النفسية المرضية التي تحدث في مرضى الفصام والأمراض العقلية الذهانية.
¤ مرض الصرع.. ومس الشيطان:
يعتبر الصرع من أكثر الأمراض العصبية إنتشاراً حيث يصيب 1% من الصغار والكبار، ومن أعراضه حدوث نوبات غياب عن الوعي قد تكون شديدة أو خفيفة، وفي حالة النوبة الكبرى يسقط المريض على الأرض في حالة تشنج يهتز لها كل جسده ويغيب عن الوعي نهائياً ولا يفيق إلا بعد مرور وقت طويل وتتكرر هذه النوبات في أي وقت وأي مكان، وقد كان التفسير الشائع لهذه النوبات أنها نتيجة مباشرة لمس الجن، وكان بعض الناس يستندون إلى التشبيه الذي ورد في آيات القرآن الكريم: {... لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}.. وظل مرض الصرع موضوعاً للكثير من الخرافات والأوهام، وتعرض المرضى لكثير من الممارسات غير الطبية ظناً من الناس أن الأرواح والشياطين وراء حدوثه حتي كشف الطب الحديث حقيقة هذا المرض.
ونوبات الصرع كما تبين من خلال الأبحاث الطبية هي نتيجة لخلل في موجات المخ الكهربائية نتيجة شحنات زائدة من بؤرة نشطة تسبب إثارة الخلايا العصبية وتحدث النوبة نتيجة لذلك، ويمكن كشف ذلك ببساطة حالياً عن طريق جهاز رسم المخ -EEG- الذي يلتقط هذه الإشارات ويحدد شدتها ومكانها، كما يمكن علاج حالات الصرع عن طريق الأدوية التي تسيطر علي هذا الخلل الوظيفي في المخ، ولا علاقة نهائياً للجن والشياطين والأرواح الشريرة بهذا المرض كما كان يعتقد من قبل.
وفي ختام هذا الموضوع حول الشيطان والمرض النفسي فإننا نذكر بعض الحقائق العلمية الهامة، التي تمثل وجهة نظر الطب النفسي في هذه المسألة.. وهي:
ـ لا دخل للشيطان بالأمراض النفسية والعضوية التي تصيب الإنسان، وأسباب هذه الأمراض إكتشف الطب جوانب كبيرة منها، وتوصل إلى علاجها بعيداً عن أي قوى خفية.
ـ لا يوجد ما يدعو إلى تعظيم شأن الشيطان بأن ننسب إليه أشياء كثيرة مع أنه كما نعلم من نصوص القرآن أنه أضعف من ذلك بكثير ولا يستطيع السيطرة على الإنسان إلا من خلال قدرته المحدودة علي الإغواء لبعض الناس ممن لديهم الإستعداد لذلك.
ـ القضية التي ناقشناها هنا في هذا الحيز المحدود بعيدة عن أي جدل فقهي، والمطلوب هو حملة توعية لتوضيح الحقائق حتى لا يختلط العلم والإيمان بالخرافة والدجل.
ـ الممارسات التي يقوم بها أدعياء الطب والدجل والشعوذة بإستغلال معتقدات الناس حول الشيطان وعلاقته بالمرض النفسي يجب أن يتم وضع حد لها بعد أن تطور الطب وتوصل إلى كشف الكثير عن أسباب وعلاج هذه الحالات.
وأخيراً وبعد مناقشة هذه النقاط فإننا لم نغلق هذا الموضوع بل نعتقد أنه أصبح مفتوحاً لمزيد من الآراء بعد توضيح هذه الحقائق من وجهة النظر النفسية، ونرجو أن نكون قد وفقنا إلى إلقاء الضوء على هذه الجوانب الغامضة للأمراض النفسية بما يساهم في إزالة ما يحيط بها من الغموض.
الكاتب: د. لطفي عبدالعزيز الشربيني.
المصدر: موقع المستشار.